30/08/2023 - 11:59

إدوارد سعيد وصورة الفلسطينيّين | أرشيف

إدوارد سعيد وصورة الفلسطينيّين | أرشيف

الناقد والمفكّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد (1935 - 2003).

 

العنوان الأصل: «إدوارد سعيد وصورة الفلسطينيّين».

المصدر: «مجلّة مشارف».

الكاتب: فخري صالح.

زمن النشر: 1 نيسان (أبريل) 1996.

 


 

في كتابه «ما بعد باختين: مقالات في الرواية والنقد»، يتحدّث الناقد البريطانيّ ديفيد لودج عن الناقد والمفكّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد (1935 - 2003) بصورة قدحيّة تشكّك في صيغة انتشاره وطبيعة إسهامه النقديّ في الإنتاج النقديّ المعاصر في العالم الناطق بالإنجليزيّة. يزعم لودج أنّ سطوع نجم سعيد يعود إلى وجود جالية يهوديّة قويّة في أمريكا، ممّا يجعل بروز اسم فلسطينيّ أمرًا متوقّعًا لما سيثير هذا الفلسطينيّ من جدل في الأوساط الأمريكيّة، لوجود نقيضه القويّ الفاعل على الساحة الأمريكيّة. ورغم أنّ لودج، وهو ناقد كبير ومتابع للنقد في العالم، يسوق هجومه على سعيد ضمن حملة مركّزة على النقد في الجامعات الأمريكيّة، إلّا أنّه ينتقيه من بين أسماء عديدة ليحطّ من قدر عمله ويبخس إسهاماته النقديّة الّتي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط النقديّة العالميّة، ويبدو أنّ الهجوم يندرج في سياق التنافس النقديّ الحادّ الّذي يجري في إطار النقد الأنجلو-ساكسونيّ.

ومع أنّ هجوم لودج لا ينتقص كثيرًا من قدر إدوارد سعيد، ولا يجرّد أعماله النقديّة من جدّتها وجدّيّتها وعمقها وقدرتها على إثارة الجدل والحوار حولها، إلّا أنّ ذلك يذكّرني بالتقديم غير الجدّيّ لهذا الفلسطينيّ في ثقافتنا العربيّة، واختزاله إلى مجرّد صاحب رأي سياسيّ ومدافع عن القضيّة الفلسطينيّة في الغرب، ومنتقد للسياسات الفلسطينيّة والعربيّة في أشكال تعاملها مع أمريكا، وعدم عملها على إستراتيجيّات تؤثّر على الرأي العامّ الأمريكيّ.

هناك كتابان فقط تُرْجِما له إلى العربيّة، هما «الاستشراق» (1978) و«تغطية الإسلام» (1981)، إضافة إلى كتابه الأخير الّذي أصدره بالعربيّة قبل الإنجليزيّة، والموجّه إلى القارئ العربيّ بصورة خاصّة «غزّة-أريحا؛ سلام أمريكيّ» (1994). وقد أعلنت «دار الآداب» في بيروت عن نيّتها إصدار ترجمة لكتابه «الثقافة والإمبرياليّة» (1993). الكتب، كما يُلاحَظ من عناوينها، تدور حول أسئلة وموضوعات ساخنة تجذب اهتمام القرّاء من مشارب متنوّعة، لاتّصالها بإشكاليّات حياتهم اليوميّة. لكنّ مجمل إنتاج إدوارد سعيد النقديّ ليس معروفًا للقارئ العربيّ، وتطوّر هذا الناقد الكبير ليس واضحًا حتّى للمثقّفين والنقّاد العرب.

لقد أنتج صاحب «الاستشراق» عددًا من الأعمال النقديّة الأساسيّة في الفكر الغربيّ، و«الاستشراق» واحد منها فقط؛ فمنذ أصدر كتابه الأوّل «جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتيّة» عام 1966، لفت إدوارد سعيد الأنظار، ثمّ قدّم كتابه «بدايات» (1975) الّذي أبان فيه عن شخصيّة ناقد كبير يعرف النقد الفرنسيّ معرفة سمحت له بتقديم البنيويّة ومتفرّعاتها لقرّاء اللغة الإنجليزيّة، وتقديم دراسة متميّزة كذلك عن مفهوم ’بداية‘ العمل الأدبيّ، وأثر ’البداية‘ على بنية النصّ. أمّا في كتابه «العالم والنصّ والناقد» (1983)، فإنّه يواصل العمل على الموضوعات الأساسيّة الّتي عالج بعضها في «الاستشراق» و«بدايات» و«جوزيف كونراد»، مهتمًّا بقضايا الاستشراق ومتفرّعاته وبإسهام النقد في المجتمع، داعيًا إلى إشاعة ما يسمّيه ’نقدًا علمانيًّا‘ في مقابل ’النقد الدينيّ‘.

 

ما بعد السماء الأخيرة

إدوارد سعيد يثبت في كتبه العديدة الّتي تغطّي مساحات واسعة من الاهتمامات وميادين العمل الثقافيّة، بدءًا من الدراسة الأدبيّة العمليّة، مرورًا بتاريخ أنظمة الفكر والنقد الموسيقيّ والمجال السياسيّ، وانتهاءً بالمزاوجة بين آفاق متنوّعة من الممارسات الثقافيّة في «الاستشراق» و«العالم والنصّ والناقد» و«الثقافة والإمبرياليّة».

كتابه «ما بعد السماء الأخيرة» (1986) هو ثمرة العمل في هذه الميادين جميعًا، حيث يستفيد من إنجازه في حقل الاستشراق وما يُسَمّى الدراسات الشرقيّة أو الإقليميّة، وكذلك دراسته للقضيّة الفلسطينيّة في كتابيه «القضيّة الفلسطينيّة» (1979) و«لوم الضحايا» (1988)، للتوصّل إلى قراءة لحالة الفلسطينيّ من خلال الصور الّتي صوّرها جان موهر، وكتب سعيد نصّه انطلاقًا منها.

يكتب إدوارد سعيد: "ليس هذا الكتاب كتابًا موضوعيًّا، لقد كان قصدنا هو أن نرى الفلسطينيّين بأعين فلسطينيّة". وهو يعلن بذلك عن الشكل الّذي سيأخذه الكتاب في رحلة بين العين الرائية، وعين الآخر الرائية، والنصّ الّذي يكتبه إدوارد سعيد منطلقًا من أرضيّة الصور بما تستثيره فيه من انفعالات وأحاسيس وذكريات وتأمّلات. ورغم ذلك، لا يبدو النصّ مبعثرًا دون مركز، مشتّتًا بين الصور والنصّ المكتوب. إنّ الصور تتضافر في تقديم خلفيّة للنصّ؛ إذ تصطدم بها عين القارئ وهي تتابع النصّ المكتوب الّذي ينطلق من الصور ليعيد لَحْم ما تثيره الصور فيه من إحساس بنصّ الذكريات أو التأمّلات السياسيّة، والنظر في مصير الفلسطينيّ المقتلع خارج أرضه وداخلها. ليس ثمّة أفضل من هذه الوسيلة الّتي تستفيد من الصور الحيّة لعرض إشكاليّة الوجود الفلسطينيّ أمام العين والذهن الغربيّين. كاميرا عن قرب، عين شارحة من فلسطين، ونصّ يستفيد من فهم المؤلّف لدور المثقّف العضويّ بالمفهوم الغرامشيّ، الّذي يعادل مفهومه لضرورة أن يكون الكاتب ’دنيويّ‘ النزعة، ملتصقًا بشروط عصره، يتّخذها منطلقًا لمشاركته في إيجاد أجوبة عن الأسئلة الّتي يطرحها عصره عليه، وأن يكون، بهذا المعنى، جزءًا من "الإمكانيّات الاجتماعيّة والفعاليّات السياسيّة" لهذا العصر.

انطلاقًا من هذا الفهم لطبيعة مشاركة المثقّف السياسيّة والاجتماعيّة، يأخذ كتاب سعيد «بعد السماء الأخيرة»، شكلًا من أشكال الدمج بين المادّة والموضوعيّة المتوفّرة بين يديه، بما في ذلك الصور الّتي صوّرها جان موهر، والذكريات الشخصيّة الّتي توفّر مادّة حيّة تتمتّع بقدر كبير من الحميميّة، وتعطي الكتاب طابعًا سرديًّا يكشف عن المعاناة الوجوديّة الكبرى للفلسطينيّين الّذين أصبح سعيد واحدًا من أهمّ الناطقين باسمهم في الغرب، في أمريكا أوّلًا، وفي بريطانيا أيضًا بصورة متزايدة في الأعوام الأخيرة.

تبدأ حكاية الكتاب من مهمّة كُلِّفَ بها إدوارد سعيد عام 1983 للتحضير لمؤتمر دوليّ تعقده «الأمم المتّحدة» حول القضيّة الفلسطينيّة، وقد اقترح سعيد على المسؤولين في «الأمم المتّحدة» ضرورة أن تقوم الهيئة المنظّمة للمؤتمر بتعليق صور أخذها المصوّر السويسريّ جان موهر للفلسطينيّين في كلّ أماكن تواجدهم، داخل فلسطين وخارجها، على مدخل القاعة الّتي سيُعْقَد فيها المؤتمر. لكنّ مسؤولي «الأمم المتّحدة» قرّروا أن تُعَلَّق الصور هكذا دون شرح أو تعليق، ودون أيّة إشارة سوى لكلمة واحدة تعلن عن البلد الّتي أُخِذَتْ فيه الصورة. ولقد قرّر سعيد بعد هذه التجربة الّتي يعلّق عليها في مقدّمة الكتاب، أن يقوم بتأليف كتاب تكون فيه هذه الصور، الّتي ما قُيِّضَ لها أن تُعْرَضَ بالطريقة الّتي تشرح معاناة الفلسطينيّين وتوقهم إلى الحرّيّة وتقرير المصير، منطلقًا لنصّه المكتوب. لكنّ الصور لا تقيّد حركة سعيد في الزمان أو المكان؛ فالتعليق أو السرد ينهض منها ليستكمل المشهد الصامت الّذي تنقله الصورة، مضفيًا على الصور حيويّة، ومعطيًا لها معنى في سياق النصّ، حيث يتبادل النصّ والصورة أحيانًا توضيح بعضهما بعضًا وجلاء الغامض فيهما.

 

مركزيّة المنفى 

إنّ المطّلع على نصوص سعيد، سواء منها الّتي تتناول حقولًا معرفيّة مثل النقد الأدبيّ أو الاستشراق ونسله من المعارف، أو حتّى كتاباته السياسيّة عن فلسطين ومقالاته في التعليق على الأحداث والتطوّرات الدوليّة بشأن فلسطين والمنطقة العربيّة، يعثر على الدوام على فكرة المنفى مبثوثة في كتاباته. تلك الفكرة المركزيّة الّتي تصبح بؤرة إشعاع متّصل في نصّ إدوارد سعيد الحاليّ ونصوصه الأخرى، وعلى رأسه كتابه الأخير المميّز «الثقافة والإمبرياليّة». وهو في «بعد السماء الأخيرة» يستعيد وضعيّته كمنفيّ، بالمعنيين السياسيّ والثقافيّ، ويشرح لقارئه الأجنبيّ كيف أصبح هو وعائلته منفيّين عن الوطن، ويوضّح هذا الوضع بالنسبة له ولباقي الفلسطينيّين:

"لقد تبخّر من حياتي وحياة الفلسطينيّين جميعًا ثبات الجغرافيا وامتداد الأرض، وحتّى لو لم نكن لنُسْتَوْقَف على الحدود، أو نُساق إلى مخيّمات جديدة، أو نُمنع من الدخول أو الإقامة أو السفر من مكان إلى آخر، فإنّ أراضي أخرى لنا تُحْتَلّ ويجري التدخّل في حياة كلّ منّا بصورة اعتباطيّة، وتُمْنَع أصواتنا من الوصول إلى بعضنا البعض؛ إنّ هويّتنا تُقَيَّد وتُحْبَس وتُحاصَر في جزر صغيرة خانقة، ضمن محيط غير مضياف، تحكمه قوّة عسكريّة عليا تستخدم رطانة إدارة حكوميّة تؤمن بالطهارة العرقيّة الخالصة"، ص 19.

من هذا الشعور بالاندراج في المشهد الّذي يكتب عنه الكاتب، تأتي وحدة الكتاب والناظم الداخليّ الّذي يجعل النصّ متماسكًا وممتدًّا على مدار الصفحات المائة وأربع وسبعين. ويعمل إدوارد سعيد منذ الصفحات الأولى على توضيح هذا التشابك بين المادّة الموضوعيّة في الكتاب والمادّة المتّصلة بذكريات الكاتب ومشاعره الشخصيّة وحضوره البالغ في نصّه، وانطلاقه بصورة أساسيّة من التجربة الشخصيّة الخاصّة به وبعائلته. إنّ سعيد يوضّح لقارئه أنّ هناك صعوبة في تعيين الفلسطينيّين، لأنّ جسمًا ضخمًا من المادّة الإعلاميّة والأبحاث قد اختصرت الفلسطينيّين إلى مجرّد صور نمطيّة متداولة في الغرب عن الفلسطينيّ اللاجئ، أو المقاتل أو الإرهابيّ أو المنبوذ الّذي لا هويّة له. ومن هنا، فإنّ مهمّة أساسيّة من مهمّات «بعد السماء الأخيرة»، هي العمل على تغيير هذه الصورة النمطيّة للفلسطينيّين في الغرب، عبر عرض جوانب من حياتهم مصوّرةً ومصحوبةً بنصّ سرديّ ينتقل من حقل الكتابة التاريحيّة إلى حقل الدراسة الإحصائيّة، إلى التعليق على الواقع الثقافيّ والأدبيّ للفلسطينيّين المعاصرين، إلى التأمّل الذاتيّ وسرد الذكريات.

يعلّق سعيد على نقطة انطلاق نصّه قائلًا: "لقد وجدتُ نفسي عندما بدأتُ في كتابة هذا الكتاب أتنقّل بين الضمائر، من نحن إلى أنتم إلى هم، لكي أكون قادرًا على تعيين هويّة الفلسطينيّين". ويبدو هذا التنقّل بين الضمائر نابعًا من إيمان سعيد بأنّ التاريخ الفلسطينيّ، بسبب تجربة المنفى، قد افتقد المركز الّذي يوفّره ثبات الجغرافيا وامتداد الأرض. لكنّ تجربة المنفى والشعور بالمعاناة هي في نظره الناظم المركزيّ، وما يوحّد فعلًا التجربة الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ، رغم أنّ المنفى الفلسطينيّ، بحسب سعيد، "خفيّ غير ظاهر، وهو بالنسبة لكلّ منّا شيء شديد الخصوصيّة"، ص 5. لقد أدّى هذا الارتباط الحميميّ بفكرة فلسطين، بالفلسطينيّ، إلى أن يضيع معنى المكان؛ أن يفكّر بفلسطين بوصفها قطعة من الأرض مزدحمة بالبشر طُرِدَ منها. وهكذا، يقول سعيد، فإنّ "أيّة محاولة لاستعادة الهويّة الفلسطينيّة هي أيضًا محاولة للعودة إلى الخارطة، لمساعدة فلسطينيّي الداخل على الحفاظ على ثباتهم المهدّد على أرض فلسطين"، ص 62.

إنّ من بين مهمّات كتاب مثل «بعد السماء الأخيرة» التشديد على الوجود الفلسطينيّ أمام أعين العالم، وتقديم الفلسطينيّين كما هم للقارئ الّذي لا ينبغي أن يظنّ أنّه هو وحده الّذي يتفحّص الفلسطينيّين، بل إنّ الفلسطينيّين الّذين في الصورة يتفحّصونه أيضًا. إنّهم، حسب الكلمات الأخيرة لسعيد، ليسوا مجرّد موضوع للآخرين، بل إنّهم أيضًا يقومون بالنظر إلى القارئ وتفحّصه والحكم عليه. وتلك هي واحدة من مهمّات الكتاب، أن يُشْعِر القارئ، بالنظر إلى الصور وقراءة النصّ، بأنّ العيون الّتي تطلّ من ثنايا الكتاب تراقبه وتتفحّصه، وتشدّد على الوجود الفعليّ لها، وتقتحم عليه خلوته، وتذكّره بأنّ الصور النمطيّة الّتي يحملها عن الفلسطينيّ ليست هي الحقيقة، إنّ الحقيقة موجودة في مكان آخر يشير إليه هذا الكتاب. كما إنّ إدوارد سعيد يتابع عمله لجلاء هذه الحقيقة في كتبه الأخرى الّتي أفردها لفلسطين، أو كانت فلسطين في قلب مشروعه عندما فكّر بها.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.
 

التعليقات